في مساء يوم 24 مايو 1969م توجهتُ إلى مطار الخرطوم لوداع ابن عمي عبدالرحمن الطيب علي طه الذي كان قد أكمل مراسم زواجه في الخرطوم وسيغادر السودان لاستئناف دراسته بالولايات المتحدة الأمريكية.
ويبدو أنني بكَّرتُ كثيراً في الحضور إلى المطار لأن قاعة المسافرين كانت شبه خالية. غير أني لمحت في أحد أركانها شخصين أعرفهما هما: محمد إبراهيم نقد وفاروق حمد الله (رحمة الله عليهما).
لكن معرفتي بفاروق حمد الله كانت أوثق. فقد كان كطالب حربي في الدفعة (10) تعلمجي الصنف الذي كنتُ أنتمي إليه في معسكر فرق الثانويات العسكرية (الكاديت) الذي عُقد في السبلوقة في أغسطس/سبتمبر 1958.
وفي الفترة 1967-1969 إبان فترة عملي كمحاضر بجامعة الخرطوم، التقيت فاروق في مناسبات اجتماعية مختلفة. وأحياناً كنت أصادفه في مقهى سويت روزانا بشارع الجمهورية. وكان يرتاد ذلك المقهى بشكل شبه يومي نفر من ضباط الجيش الذين كانوا قد أحيلوا إلى التقاعد أو الاستيداع.
بعد التحايا، انخرطتُ في (ونسة) مع نقد وحمد الله لأكثر من نصف الساعة. ثم انصرفتُ عنهما عندما وصل عبدالرحمن الطيب وزوجته إلى المطار، وتوافد إلى المطار كذلك بعض مودعيه.
لم أستغرب وجود نقد وحمد الله معاً في المطار رغم اختلاف فكرهما السياسي، فمبلغ ظني أنهما ربما كانا في المطار لوداع صديق أو قريب مشترك سيغادر على متن طائرة لندن.
في نفس توقيت رحلة طائرة لندن، كانت ستقلع من مدرج مطار الخرطوم طائرة عسكرية متجهة إلى موسكو. وكان سيكون على متنها وفد عسكري رفيع المستوى للتعاقد على شراء أسلحة.
كان الوفد العسكري رفيع المستوى مكوناً من رجل القوات المسلحة القوي آنذاك اللواء محمد إدريس عبدالله نائب رئيس هيئة الأركان، والعميد أحمد البشير شداد، والعميد عثمان حسين، والعميد (طبيب) حمدنا الله الأمين، والعميد أحمد خالد شرفي.
أقلعت طائرة الوفد العسكري رفيع المستوى في الوقت والتاريخ المحدد لها وهو 24 مايو 1969. وفي فجر يوم 25 وقع انقلاب مايو العسكري. وفي مساء نفس اليوم أعِلن عن تشكيل مجلس قيادة الانقلاب وكان بضمنه فاروق حمد الله
. ومن ثم تكشَّفت هوية الانقلاب، ومشاركة الحزب الشيوعي فيه، ودار في الأنباء سفر الوفد العسكري رفيع المستوى إلى موسكو عشية الانقلاب.
عندها أدركتُ أن وجود محمد إبراهيم نقد وفاروق حمد الله في مطار الخرطوم في عشية 25 مايو كان لإنجاز مهمة تتعلق بالانقلاب كلفا بها، وهي التأكد من أن طائرة الوفد رفيع المستوى قد أقلعت. فإذا لم تقلع فإن ذلك ربما كان سيترتب عليه تعديل ساعة الصفر أو ربما يشي بأن أمر الانقلاب قد انكشف.
عندما وصل الوفد العسكري رفيع المستوى موسكو وجد بانتظاره برقية من النظام الجديد تلقتها السفارة السودانية في موسكو تقضي بإبلاغ الوفد بأن مهمته قد «أوقفت».
أحال النظام الجديد كبار ضباط الجيش إلى التقاعد، وكان بضمن هؤلاء جميع أعضاء الوفد العسكري رفيع المستوى باستثناء العميد أحمد البشير شداد.
You can follow @ftaha39.
Tip: mention @twtextapp on a Twitter thread with the keyword “unroll” to get a link to it.

Latest Threads Unrolled: