امبارح اتكعبلت في قصة فولكلورية جميلة جدًا من التراث الأفريقي وتحديدًا من تنزانيا بتحكي عن ولد صغير اسمه ميوراليه Murilé كان عايش مع أمه وأبوه وأخواته الأصغر منه في قرية فقيرة وكان حال أسرتهم على قد الحال يدوب اللي بيزرعوه بياكلوه.
ميوراليه كان طفل حالم رقيق القلب، وده كان سبب النزاع الدائم بينه وبين أمه اللي كانت شايفة أن مفيش مكان للمشاعر ورقة القلب في العالم ده لو الإنسان عايز يعيش، وكانت بتعامل أطفالها على هذا الأساس بدافع الخوف عليهم.
في يوم وهو بيلم المحصول مع أمه في الحقل لقى جذور قلقاس شكلها شكل طفل صغير فبكل براءة جري على أمه علشان يوريها قد إيه جذور القلقاس شكلها لطيف وإنه مش عايز ياكلها علشان بتفكره بأخوه الصغير وهو رضيع لسه..
طبعًا أمه نهرته وقعدت تزعق له علشان يسترجل ويبطل الهبل بتاعه ده وراحت تحكي لأبوه وأخواته الصغيرين علشان تجرّسه وتعمل منه عِبرة وقعدت في الرايحة والجاية تتريق عليه وترمي كلام من نوعية "بصوا أخوكم الكبير العاقل ابن العبيطة بيقول إيه".. وهكذا.
ميوراليه شال الحزن في قلبه وأخد جذور القلقاس اللي لقاها وراح خباها في جذع شجرة، وقعد يدعي الآلهة ويقول كل التعاويذ السحرية اللي حافظها. ميوراليه لما رجع لجذع الشجرة تاني يوم لقى أن جذور القلقاس اتحولت لطفل رضيع بيعيط!
ميوراليه أحتضن الطفل الرضيع ووعد أنه يفضل يحبه ويرعاه طول ما هو عايش. المهم أنه رجّع الرضيع داخل جذع الشجرة تاني وجري على البيت يجيب له أكل ولبن.
ومرت أسابيع وميوراليه بيرعى الطفل اللي في جذع الشجرة وكان بيشيل من نصيبه في الأكل ويأكّل الطفل ده علشان أمه وأهله مايخدوش بالهم لحد ما ميوراليه نفس بقى رفيع وهزيل. طبعًا أمه أخدت بالها أن ابنها قاعد يخس ويضعف فابتدت تشك أن فيه حاجة غلط،
وفي يوم قررت أنها تراقبه. وفعلاً شافت أن ميوراليه وقت الأكل بيشيل معظم نصيبه في جيبه وبعدين بعد ما بيتأكد أنهم ناموا بيروح لجذع شجرة بعيد بيحط فيه الأكل. أمه استغربت جدًا وقررت أنها تروح تشوف إيه اللي في جذع الشجرة ده بنفسها وميوراليه مشغول مع أبوه في الحقل.
راحت فعلاً واتصدمت لما شافت طفل بيعيط جوا جذع الشجرة وفهمت أن ميوراليه مابياكلش علشان يأكّل الطفل العفريتي ده اللي عايش داخل الشجرة. الأم اتعصبت وهاجت وماجت ومافاقتش إلا وإيديها حوالين رقبة الطفل اللي كف عن العياط.. والتنفس.
اليوم التالي ميوراليه راح علشان يطمن على طفله داخل جذع الشجرة واتصدم طبعًا لما اكتشف أنه مات. اللي يوجع القلب في الموضوع أن ميوراليه اضطر يكتم حزنه في قلبه علشان أهله مايعرفوش حاجة عن الموضوع،
أمه طبعًا لاحظت الحزن في عيون ابنها ولكنها قعدت تغيظ فيه وتقول له ياكل كويس علشان شكله زعلان وهزلان وده مش حلو علشان صحته.. ميوراليه وهو بياكل ماقدرش يمسك دموعه قدام القسوة دي وعيط ولما أمه السوسة سألته ليه بيعيط قال لها علشان الدخان بتاع النار دخل في عينيه
وقال لها أنه محتاج يقعد برا الكوخ شوية لوحده، وفعلاً أخد الكرسي بتاع أبوه وقعد في العراء يعيط بحُرقة ويدعي أنه يبعد عن المكان ده وعن كل اللي فيه...
وفجأة، الكرسي اللي كان ميوراليه قاعد عليه ابتدى يطير بيه ناحية السما، ميوراليه مابقاش مصدق وبص تحته لقى أبوه وأخواته زي النمل قاعدين يندهوا عليه وأمه تصرخ باسمه وتترجاه يرجع... ميوراليه بص عليها من فوق وصرخ بعلو صوته "مش هنزل هنا تاني أبدًا!"
الكرسي فضل يرتفع لحد ما وصل للقمر، ميوراليه شاف ناس عايشين على القمر وحاول يسألهم عن مكان "زعيم القمر" ودلّوه مقابل أنه يشتغل معاهم وبالفعل ساعدهم لحد ما قالوا له على مكان كوخ زعيم القمر.
ميوراليه قابل زعيم القمر اللي كان راجل حبوب سمع لقصته ورحّب بوجوده على القمر وعزمه على وليمة يرم بيها عضمه بعد الرحلة الشاقة دي. ميوراليه استغرب لما لقى أن كل اللحم اللي في الأكل نيء وسأل زعيم القمر هم ليه مش بياكلوا اللحم مستوي؟
زعيم القمر مافهمش قصده إيه، وبعدين ميوراليه اكتشف أن أهل القمر مايعرفوش يعني إيه نار، فلما علمهم إزاي يعملوا نار ويستخدموها في تسوية الأكل وصنع الفخار والتدفئة بقوا طايرين بيه طير..
ميوراليه بقى من أغنى وأشهر أهل القمر وعاش سنين طويلة معاهم وتزوج من أجمل بنات القمر وخلف أطفال كتيرة، بس برضه، وعلى الرغم من كل العز والنغنغة دي، كان حاسس أن فيه حاجة ناقصاه.
في يوم من الأيام، ميوراليه قرر أنه يرجع لأهله على الأرض. ميوراليه لبس أفضل ثيابه وأغلى الحُلي اللي عنده وأخد زوجاته وأطفاله في موكب مهيب وراح بيه على الأرض. في الطريق للأرض، ميوراليه تعب من المشي (مش عارفة ماشي على إيه بالظبط بس ما علينا)
فطلب من أحد تيرانه – "ثيران" جمع ثور – أنه يشيله على ضهره، التور وافق بس قال له هشيلك على ضهري بشرط واحد (حيوانات القمر بتتكلم عادي) وهو أننا لما نوصل الأرض ماتدبحنيش وتاكلني. ميوراليه قال له "يا سلام بس كده؟ من عينيا طبعًا، وعد مني ماحدش هيقرب منك طول ما احنا على الأرض."
ميوراليه وصل لقريته في موكبه المهيب في وسط انبهار الجميع، وطبعًا لما أمه وأبوه وأخواته شافوه جريوا عليه وحضنوه وماكانوش مصدقين أنه رجع فعلاً. بعد الفرحة والترحاب، ميوراليه حكى لأسرته اللي حصل معاه كل السنين دي ووراهم التور اللي شاله على ضهره طول الرحلة ونبّه عليهم أنهم مايدبحهوش.
ميوراليه كان مبسوط برجوعه وسط أهله وأنه حس للمرة الأولى أنهم بيحبوه فعلاً، وخصوصًا أمه. بس للأسف هي كلها كام يوم ورجعت ريما لعادتها القديمة وأمه ابتدت تنتقده علشان سابهم كل الفترة دي وهم فقرا ومحتاجين المساعدة وقعدت تسخر من وصفه لأهل القمر وحياته هناك.
وبعد فترة، ميوراليه كان قاعد في أمان الله فلقى أمه داخلة عليه بطبق من اللحم، ميوراليه شكرها وقعد ياكل ولكن بعد كام قضمة حس أن طعم اللحم غريب وأن فيه صوت طالع منه.. ميوراليه سأل أمه جابت اللحم ده منين
فقالت له بكل برود أنهم دبحوا التور بتاعه وأن ماينفعش ياكلوا اللحم ده كل من غير ما يكون له نصيب فيه. ميوراليه مابقاش مصدق نفسه وبكى وسألها ليه عملت كده وخلته يخون التور ويحنث بوعده، الأم طلبت منه يبطل الكلام الأهبل ده ويكمل أكل وهو ساكت.
ميوراليه كمل أكل فعلاً وعينيه مليانة بالدموع والعجز، وساعتها افتكر اليوم اللي طفله مات فيه واضطر يحبس حزنه ودموعه، وفجأة.. انشقت الأرض تحت قدميه وابتلعته، وأختفى ميوراليه للأبد.
القصة حقيقي مؤلمة وجميلة في نفس الوقت، وبنبهر لما بلاقي قصص شعبية شفهية بتتناول العلاقة بين الأم والابن من جانب نفسي بشكل عميق كده. القصة بتتناول قسوة الآباء، حتى ولو بدافع الحب، والأثر الغائر اللي بتتركه في الأبناء للأبد..
ميوراليه نموذج لكل طفل بيضطر أنه يخبي خياله أو شغفه الطفولي علشان يتجنب قسوة الأهل اللي بيعاملوا الطفل ده على إنه شخص ناضج أو بيفرضوا عليه نموذج معين وفقًا لتصورهم عن الحياة.
ميوراليه اضطر يخبي جذور القلقاس اللي اتحولت لطفل داخل جذع شجرة ويسرق لها من الأكل بتاعه ويهزل علشان يحافظ على خياله البريء ده. الطفل لما بيتحرم من حاجة بيحبها بالقسوة غالبًا مش هيبطل تفكير فيها وهيعملها في السر وهيضطر يكدب وياخد من وقته وصحته علشان يعملها.
لو نهرت طفل وحرمته من أكلة بيحبها مثلاً احتمال كبير يتعلم يكدب علشان ياخد فلوس مني ويروح يجيبها من ورايا أو يسرقها من حد، ولما يفرط في أكلها ده هيقلل من أكله التاني ويأثر على صحته في حين أني لو سمحت له يأكلها بكميات معقولة من غير ما أنهره كل ده مش هيحصل.
وده اللي حصل مع ميوراليه.. أمه، علشان تعوده يبقى راجل ويعتمد على نفسه، رفضت مشاعر الطفولة عنده وخياله البريء فاضطر أنه يخبيه وينميه في السر لحد ما أمه اكتشفت وقتلته، ودي قمة القسوة أن أم تقتل خيال طفلها بس علشان يكبر زي ما هي عايزة، والنتيجة كانت أن ميوراليه هجرها..
والهجرة هنا ممكن تتفهم بشكل فعلي أو مجازي: أن ميوراليه ساب أهله فعلاً وقرر يعيش حياته وينضج بعيد عنهم وبعيد عن قسوة أمه، أو أنه فضل معاهم بس عاش في قوقعة خياله وأنفصل عن الواقع تمامًا، وده رد فعل متوقع طبعًا.
ناخد بالنا أن خلال رحلته للقمر، ميوراليه بيحوّل خياله لحياة متكاملة وبيحقق كل اللي ماقدرش يحققه وبيلاقي كل اللي مالاقهوش على الأرض..
ميوراليه بيلاقي التقدير والحب والتفهم والسعادة، بيعيش الحلم اللي اضطر يخبيه داخل جذع شجرة في الواقع. وعلى قد ما ده شيء جميل إلا أنه يكسر القلب برضه.. أن إنسان مايلاقيش الحب والتفهم إلا في خياله.
لفت انتباهي أن خلال وجوده على القمر ميوراليه بيعرّف أهل القمر على النار، وده طبعًا بيفكرنا ببروميثيوس Prometheus اللي سرق النار من الأوليمب وقدمها للإنسان على الأرض. وعلى الرغم من الصورة المعكوسة إلا أن دي إشارة واضحة لمصير ميوراليه المشؤوم.
على الرغم من البعد عن مصدر القسوة – سواء فعليًا أو مجازيًا – ميوراليه حتى بعد ما كبر برضه بيلاقي نفسه بيدور عن الحب والـ validation من الأم اللي حرمته منهم وهو صغير، فبيرجع بكامل زينته علشان يبهرها ويتصالح معاها وبينجح فعلاً في إبهارها وإثبات وجهة نظره،
لكن للأسف بيقع فريسة سهلة تانية لقسوتها وبيرجع طفل صغير عاجز وكأن شيئًا لم يكن.

كنا اتكلمنا كذا مرة قبل كده عن رحلة البطل في الأساطير الإغريقية وإزاي أن أهم وأصعب جزء من رحلة البطل مش الوحوش والأهوال اللي بيواجهها في الرحلة
وإنما هي العودة للوطن والتصالح مع مصدر الأذى اللي كان السبب في رحيله في المقام الأول. ميوراليه نجح في رحلته وقدر يرجع تاني لكنه فشل في التعايش مع واقعه القديم،
وده يخلينا نتسأل هل رحلة ميوراليه دي كانت رحلة نضج وتغيير فعلاً ولا رحلة هروب؟ وأعتقد ده السؤال اللي بيؤرقنا كلنا حتى بعد ما بنكبر، هل تصالحنا مع الأذى نضج أم هروب من مواجهته؟ هل هو قوة أم ضعف؟
أم ميوراليه، اللي بتلجأ للقسوة خوفًا من فقدان ابنها للمرة التانية (شيء مؤلم برضه إنها عملت كده في المرتين بدافع الحب)، بتدبح التور اللي كان ممكن يرجّع ابنها للقمر تاني وبالتالي بتضمن وجوده معاها، ولكنها بتكتشف أن فعلتها دي هتكون سبب في فقدان ابنها للأبد.
ميوراليه بيواجه ضعفه وجهًا لوجه المرة دي وعدم قدرته على المحافظة على خياله وعالمه، فبينهار وبيسقط في ظلمات الأرض اللي قد تكون إشارة للاكتئاب أو الموت.
بعد ما خلصت قراءة القصة، جزء مني رفض أن دي تكون نهاية ميوراليه.. قد يكون اختفاء ميوراليه في باطن الأرض هو اختفاء آخر، هروب آخر، رحلة أخرى مثيرة لعالم جديد وجميل في خياله، ولكن هذه المرة سيمكث فيه ولن يعود للواقع أبدًا.

تمت.
You can follow @LaBanshy.
Tip: mention @twtextapp on a Twitter thread with the keyword “unroll” to get a link to it.

Latest Threads Unrolled: