الخيال .. سرُّ تفوقنا
قطعة الورق التافهة هذه، أُعطيها لشخص غريب عني تمامًا، وآخذ طعامًا حقيقيًا يمكنني أكله. هذا أمرٌ رائع، لا تفعله باقي الكائنات، القرود مثلًا قد تتاجر: "أعطني حبة جوز وسأعطيك موزة." ولكن، أن تعطيني ورقة تافهة وتتوقع مني أن أعطيك موزة؟ محال! ماذا تظنني؟ إنسانًا؟
قطعة الورق التافهة هذه، أُعطيها لشخص غريب عني تمامًا، وآخذ طعامًا حقيقيًا يمكنني أكله. هذا أمرٌ رائع، لا تفعله باقي الكائنات، القرود مثلًا قد تتاجر: "أعطني حبة جوز وسأعطيك موزة." ولكن، أن تعطيني ورقة تافهة وتتوقع مني أن أعطيك موزة؟ محال! ماذا تظنني؟ إنسانًا؟
النقطة الهامة حول إنسان ما قبل التاريخ أنه كان غير مهم؛ ولم يكن تأثيره على الكوكب يتعدى تأثير قنديل البحر أو نقار الخشب. وبالمقابل، فنحن اليوم نسيطر على الأرض. والسؤال هو: كيف أصبحنا حكامًا لكوكب الأرض؟
الاختلاف الجوهري بين الانسان وبقية الكائنات لا يكمن على المستوى الفردي؛ بل على المستوى الجماعي. البشر يتحكمون بالكوكب لأنهم الكائنات الوحيدة القادرة على التعاون (بمرونة) و(على نطاقٍ كبيرٍ جدًا) أيضًا.
النحل مثلًا بمقدوره العمل بأعدادٍ هائلةٍ، ولكن ليس بتلك (المرونة)؛ فتعاونه صارمٌ جدًا: توجد طريقة واحدة فقط يمكن لفريق النحل العمل بها، وإذا حدث خطر داهم، فلا يمكن للنحل إعادة هيكلة النظام في يوم وليلة، فلا يمكنه مثلًا إعدام الملكة وتأسيس جمهورية نحلٍ جديدة!
الذئاب، الفيلة، الدلافين، الشمبانزي، بإمكانها التعاون فيما بينها بشكلٍ أكثر مرونة، إلا أنها تفعل ذلك (بأعدادٍ صغيرةٍ). الكائن الوحيد القادر على دمج المقدرتين معًا والتعاون بمرونة وعلى نطاق أعدادٍ كبيرةٍ جدًا هو نحن، البشر.
تخيلْ مئة ألف قرد في ملعب ويمبلي أو شارع أوكسفورد أو ساحة السلام السماوي؟ جنونٌ كلي وفوضى عارمة، أليس كذلك؟ بالمقابل، يتجمع البشر بعشرات الآلاف بشكلٍ طبيعيٍّ، وما نحصل عليه ليس الفوضى، عادةً. ما نحصل عليه هو شبكة تعاونٍ فعالة ومعقدة بشكلٍ هائل.
جميع الإنجازات العظيمة للجنس البشري عبر التاريخ، سواء كانت بناء الأهرامات أو الوصول للقمر، لم تتم بفضل القدرات الفردية، بل تمت بسبب القدرة على التعاون (بمرونةٍ) (وبأعدادٍ هائلة).
بالطبع، ليست جميع أشكال التعاون محمودة؛ فجميع الأشياء الرهيبة التي قام الإنسان بها عبر التاريخ — والأمور الرهيبة التي ما زلنا نقوم بها — استندت على التعاون على نطاق واسع جدًا: المسالخ هي نظام تعاون؛ معسكرات الاعتقال هي نظام تعاون. باقي الكائنات لا تمتلك مسالخ أو معسكرات اعتقال.
ما الذي يجعلنا قادرين وحدنا على التعاون بمرونة مع عدد لا يحصى من الغرباء؟ الجواب هو مخيلتنا، نحن الوحيدون على الكوكب الذين يمكنهم ابتكار الخيال وتصديق القصص. وطالما آمن الجميع بنفس القصة، فسوف يُذعن كل شخص ويتبع نفس الأحكام، نفس السنن، ونفس القيم.
الحيوانات تستخدم نظامًا للتواصل من أجل وصف الواقع فقط، فالشمبانزي قد يقول: "انظر! ثمة أسد، لنهرب بعيدًا!" أو "انظر! توجد شجرة هناك! لنذهب ونحصل على طعام!" البشر في المقابل، يستخدمون لغاتهم ليس فقط من أجل وصف الواقع، بل من أجل ابتكار واقعٍ جديدٍ، واقعٍ خياليٍّ.
في النطاق الديني، يتعاون البشر عن طريق الإيمان بنفس القصص، فملايين البشر يجتمعون سوياً لبناء كاتدرائية أو مسجدٍ، أو ليحاربوا في حملاتٍ صليبيةٍ أو جهادية؛ لأنهم جميعاً يؤمنون بنفس القصة.
ليست هناك محادثة جادة في إسرائيل حول ما يفعلونه بالفلسطينيين، هذه هي قوة القصة؛ الإسرائيليون مفتونون للغاية بقصتهم الخاصة، يمكنك التحدث مع شخص ذكي ومنفتح عن العلوم والمجرات البعيدة، وسيكون مهتمًا جدًا، وعندما تذكر الفلسطينيين، يحدث شيء ما، كالضغط على زر؛ ينقطع جزء من الدماغ فجأة.
في الحقل القانوني، معظم الأنظمة التشريعية اليوم تقوم على أساس الإيمان بحقوق الإنسان. ولكن ما هي حقوق الإنسان؟ إنها قصةٌ قمنا بابتكارها وليست حقائق موضوعية؛ قد تكون تلك القصص إيجابية جدًا، وجيدةً جدًا، إلا أنها تبقى قصصًا ابتكرناها.
في الحقل السياسي، الدول والأمم هي الأكثر أهمية في السياسة المعاصرة. ولكن ما هي الدول والأمم؟ إنها لا تُعبّر عن واقعٍ موضوعيٍّ. الجبل واقعٌ موضوعي؛ يمكنك رؤيته ولمسه، بل ويمكنك شمه. ولكن الأمم والدول، كألمانيا والصين، ما هي إلا قصصٌ ابتكرناها بأنفسنا وأصبحنا مرتبطين بها بعمق.
في الحقل الاقتصادي، أكثر العوامل أهمية في اقتصاد العالم اليوم هي الشركات العملاقة، جوجل أو تويوتا أو ماكدونالدز، ماهي بالتحديد هذه الأشياء؟ هي ما يطلق عليه رجال القانون اسم الحيل القانونية، هي عبارةٌ عن قصصٍ تم ابتكارها والمحافظة عليها عن طريق سحرة ذوي نفوذٍ ندعوهم رجال القانون.
ما الذي تحاول تلك الشركات فعله طوال اليوم؟ غالبًا، جني المال. مع ذلك، ما هو المال؟ مجددًا، المال ليس حقيقةً موضوعيةً، لا يملك قيمةً موضوعية. خذ قطعة الورق الخضراء هذه، ورقة الدولار. انظر إليها — لا تملك أي قيمة. لا يمكنك أكلها، ولاشربها، ولا ارتداؤها.
ولكن فيما بعد، جاء هؤلاء الرواة المهرة — المصرفيون الكبار، وزراء الاقتصاد، رؤساء الوزراء — وأخبرونا قصةً شديدة الإقناع: "انظر، هل ترى قطعة الورق الخضراء هذه؟ إنها تساوي في الواقع مقدار كذا من الطعام." وإن آمنتُ أنا بهذا، وأنتَ بهذا، والجميع صدقوا هذا، عندها سيتم الأمر.
المال، في الحقيقة هو من أكثر القصص رواجًا، والتي تم ابتكارها وتداولها من قبل البشر؛ لأنها القصة الوحيدة التي يؤمن بها الجميع، لا يؤمن الجميع بالله، ولا يؤمن الجميع بحقوق الإنسان، ولا يؤمن الجميع بالقومية، إلا أن الجميع يؤمنون بالمال، وبورقة الدولار.
جميع الكائنات الأخرى تعيش في عالمٍ موضوعي: أنهارٍ وأشجارٍ وأسودٍ وفيلة. نحن البشر نتحكم بالعالم لأننا نعيش في واقعٍ مزدوج: نعيش كذلك في عالمٍ موضوعي، في عالمنا أيضًا توجد أنهارٌ وأشجارٌ وأسودٌ وفيلة، ولكن بمرور العصور، قمنا ببناء طبقةٍ ثانيةٍ من الواقع، فوق الطبقة الأولى.