جلستُ على أحد الأرصفة لاستخدام هاتفي قليلاً، فشتمت امرأة عجوز الطقس وهي تنظر إليّ، تحدّثنا عن الطقس في دولتينا الأصليّتين وهي تعتذر في كل مرّة عن عدم قدرتها على سماعي كاشفةً عن أذنيها الكبيرتين اللتين تحتضنانهما سمّاعتين تساعدانها على السمع.
أخبرتني عن دخولها كليّة الطبخ في شبابها وعن إدارتها لمقهى والديها، ثم بدأت بالبكاء "كان الله يعرف بأنه سينتهي بي المطاف وحيدة، لذلك أرسلني لتعلّم الطبخ في يومٍ ما"
طلبت منّي انتظارها أسفل البناية التي تقطن فيها في حين ذهابها لإحضار صورتها يوم كانت في كليّة الطبخ، كان حماسها جنونيّاً لمشاركتها معي فطلبت منها القدوم لتناول كوب قهوة، لم تصدّق ذلك وظلّت تسألني مراراً عن مدى صدق طلبي.
بعد ربع ساعة، خرجت متبرّجة، تلبس خاتماً أسوداً وسلسالاً بأشكالٍ هندسيّة، تحمل كيساً في يدها، فيه الصورة التي أخبرتني عنها.
أخبرتني لاحقاً بأنها تعاني من الاكتئاب منذ سنواتٍ طويلة، لكنها لا تأخذ الأقراص التي وصفها الطبيب لأنها تعتمد في شفائها على الدعاء وشرب الشاي باستمرار.
طلبت مني أن آخذ لها هذه الصورة وأخبر أصدقائي عنها، سوزان في عمر الـ٦٨ عاماً، تعيش وحيدة، قضت أشهر الحجر في متابعة برامج الطبخ تحاول اكتشاف المكوّنات، لأن السكر يشبه الطحين وهي لا تستطيع سماع صوت التلفاز بشكلٍ جيّد.
أخذتها لأحد أماكن القهوة التي اعتدت زيارتها، لم يكف العاملون عن الابتسام. حين مددت لها كوب القهوة أخذت بالصراخ معبّرة عن دهشتها عمّا رسمه معدّ القهوة وتظاهرت بقراءة الفأل لنا.
كانت ترفض الجلوس بين الزبائن، أرادت مكاناً منزوياً لأنها تظن بأن الطريقة التي تتحدّث بها والتي سببها ضعف سمعها، تزعج الناس. وفي كل مرّة تخبرني شيئاً تنظر حواليها لتتأكّد بأن لا أحد يسترق السمع.
في أحد الكنائس في منطقة بيرمينغهام، عُمّدت هي وإخوتها وأبنائها وتزوّجوا جميعاً ومات والديها ووالد زوجها. أمنيتها أن تزور تلك الكنيسة مرة أخرى لتشعر بكل ذلك دفعةً واحدة. لا تستطيع تحمّل تكلفة تذكرة القطار وتظن بأنها قد تضيع في طريقها إلى هناك.
لم تسألني عن اسمي حتى أوصلتها لاحقاً إلى المنزل، صعُب عليها نطقه فقررت تسميتي بـ"ماري" الاسم الذي كانت ستطلقه على ابنتها لو انجبت واحدة، واسم والدة المسيح.
أخبرتني في طريق العودة بأنها تأخرّت لأنها كانت تبحث بين أشيائها عن شيءٍ تهديه لي، ولأن تبرجها أخذ بعضاً من الوقت. ثم بدأت تصف لي شقّتها قائلة: "أحب فيها أني حين أكون في المطبخ، أستطيع أن أميل رأسي قليلاً وسأتمكن من مشاهدة التلفاز، ليست كل النساء محظوظات مثلي."
جلسنا في المقهى حتى حان وقت إغلاقه، وحين خرجنا لم تُرد أن تعود من المنزل على الفور وطلبت مني الاستمرار في المشي حول المنطقة حتى تفرغ من مشاركة قصة حياتها. وحين شعرتُ بالبرد سألتني إذا كان من الممكن أن نمر على شقّتها لتحضر لي معطفاً ثم بذلك نكمل طريقنا.
لم تبكِ حين أخبرتني عن موت والديها أو عنف زوجها أو الأيام التي قضتها في بيوت الرعاية أو عن ابنها الذي يعاني من الفصام ولا ينفكُّ عن تبديد أموالها في القمار، والتي تثق تماماً بأنه سيربح يوماً وسيسدد لها ما أنفقه. ولكنها بكت حين تحدّثت عن وحدتها وهي تشاهد التلفاز طوال اليوم.
"تمنّيت لو أنه الصيف، حينها سنتمكن من الجلوس في الحديقة المفتوحة، مستمتعين بالشمس دون أن تضطري لشراء القهوة لي، أعرف بأنها مكلفة ولهذا لا أشربها. كما أتمنى أن تعرفي بأنني لا أستغل صداقتنا لأستمتع بالقهوة، سُعدت بصداقتكِ بحق."
اتفقنا أن نخرج مجدداً. قالت بأنني لن أستطيع الاتصال بها لأنها لن تتمكّن من سماع الهاتف ولكن يمكنني المرور بجانب مبناها يومياً ولو حدث أن صادفتها سنخرج مجدداً وسيحين دوري في إخبارها عن قصة حياتي.