ثريد بعنوان "وجبة زواج"
يذكر أبي (82 حولًا ولم يسأمِ) أن الوجبة الأساسيّة في زمنه كانت وجبة العشاء عندما يعود الحرّاثون والمزارعون من الحقول -أيام كان العمل في الحقول هو النّمط السائد وقت الاقتصاد القائم على الزراعة.
يذكر أبي (82 حولًا ولم يسأمِ) أن الوجبة الأساسيّة في زمنه كانت وجبة العشاء عندما يعود الحرّاثون والمزارعون من الحقول -أيام كان العمل في الحقول هو النّمط السائد وقت الاقتصاد القائم على الزراعة.
ثم بدأ الشباب (في منطقة بلاد الشام) بالسفر إلى الكويت ودول الخليج والخارج بشكل عام، لم يعد الحقل مصدر الرزق الوحيد، وبات الناس يعملون في قطاع التعليم والتجارة وغيرها. تبع ذلك أن أصبحت وجبة الغداء هي الوجبة الرئيسة. (وقت عودة المعلمين من المدارس واستراحة التجّار وإغلاق المصارف الخ
كلام الرجل مثال آخر يضاف إلى الأمثلة العديدة التي تؤكّد استجابة الثقافة لتغيّر نمط الانتاج والاقتصاد بشكل عام. وعلى الرغم من أنّ الثقافة تؤثّر بدورها في المجال الماديّ للمجتمعات في بعض الحالات الاستثنائيّة، إلّا أن هذه الاستثناءات لا تنفي القاعدة.
ويمثل الدين جزءًا مهمّاً من ثقافة المجتمعات على اختلافها، لا سيما الإسلاميّة منها. فالدين محدد ثقافي فاعلٌ ومقاومٌ شرسٌ للاستجابة المذكورة آنفًا أكثر من أي محدد اخر،
ولذلك نجد أنه من السّهل مثلا على مجتمع ما تغيير موعد وجبته الرئيسية استجابة لتغير نمط الإنتاج، ولكن يصعب عليه تغيير موعد صلاة مفروضة أو طقس ديني معيّن كاستجابة للعامل الماديّ ذاته. وهكذا فإن الدّين يأخذ وقتًا أطول لإعادة إنتاج نفسه على شكل أنماط تدين ملاءمة لأنماط الإنتاج السائدة
ومع ذلك، فقد تأثّرت أنماط التديّن بأنماط الإنتاج ونالها من التغيير نصيب. وهنا لا بد من ذكر قراءة من يُدعَون بـ"رجال الدين" للحالة، وهي قراءة سائدة على المستوى الشعبي الذي يلقى فيه هؤلاء آذانًا صاغية لهم
فانحسار أعداد الصفوف في المساجد، وشكاوى بعض الأهالي (خاصة في أحياء الطبقة العليا، والوسطى العليا) من بث خطبة الجمعة على سمّاعات المساجد، واستهجان هذه الطبقات للعقوبات التي تنزل بمن يفطر جهارًا في شهر رمضان، وتأكيد الطبقات الدنيا على ضرورة هذه العقوبات،
كل هذه المظاهر يُرجئها رجال الدين إلى "قلّة التديّن" في "نهاية الزّمان". ولم نسمع (أو لم أسمع شخصيًّا) رجل دين يحاول التعاطي مع هذه الظواهر بصفتها استجابات لاختلاف أنماط الإنتاج والاستهلاك؛ أي أن تفسيرهم مبني بكامله على أسس مثاليّة لا ماديّة.
لو نفكّر في الأمر بعيدًا عن الإيمان والدّين، لوجدنا أن صلاة الجماعة في المسجد مثلًا لا تتّسق مع نمط العمل السائد وهو "الوظيفة،" ولذلك ظهرت فكرة "المُصلّى" في أماكن العمل، وهي فكرة مُستحدثة.
والخلاف في شأن حكم المُصلّى قائم إلى الآن، فالقلّة يعتبرونه "مسجدًا" والكثرة لا تعتبره كذلك. فلا يصلّي الشخص ركعتين تحيّة للمصلّى، وأرض المصلّى هي ملك لصاحب العمل، في حين أن المسجد أرض وقف لله – "أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ"
تغيّر موعد الوجبة الرئيسة إذًا كان استجابةً لتغيّر نمط الإنتاج.
إنّ المؤسسات بدورها تنعقد وتنحل عبر الزمن مُشكِّلة استجابات للتغيرات التي تطرأ على أنماط الإنتاج والاستهلاك، إلّا أن المؤسسات "المرتبطة" بالدين بطيئة في حركة استجابتها للتغيّر الاقتصادي، وبالتالي تسبقها تلك المتحرّرة من ارتباطها الدينيّ (بغض النظر عن معنى "الارتباط" هنا)
مؤسسة الزواج ليست استثناءً. فالزواج بشكله الحالي كمؤسسة هو ابن مرحلته التاريخية؛ لم يكن موجودًا في وقت سابق، كما أنه يومًا ما قد لا يعود موجودًا.
وأنّا أرجّح انقراض مؤسّسة الزواج، وأقول أنّ طلّاب الأنثروبولجيا سيدرسونه في جامعاتهم بصفته مثالًا على استجابة الثقافة للتّغيّر الماديّ. هذا بالطبع في حال بقي هناك حقل معرفيّ اسمه "الأنثروبولوجيا" أو مؤسّسات تدعى "جامعات".
حتّى لا أكرّر كلامًا أصبح ثقافة عامّة، أشير فقط إلى أن الأسرة ظهرت كمؤسسة لأغراض تتعلّق بالبقاء والإنتاج (الزراعة تحديدًا)، حيث شكّل أفراد الأسرة أعضاء فريق العمل، والمحدد الرئيسي لكفاءة الفريق لم يكن مهارة الأعضاء الحِرفية، بقدر ما كان عدد أعضاء الفريق وبالتالي قدرتهم الإنتاجية
واليوم تغيّر المشهد، وهو في الواقع كان وما زال في تغيّر مستمرّ. ففريق العمل هو مجموعة من الغرباء يجمعهم الحيّز المكاني، أو الافتراضي، في المؤسسّة لا رابط الدّم، وكفاءة الفريق متّصلة بالقدرات الفرديّة لكل واحد منهم، والفريق ليس فريقًا بقدر ما هو مجموعة من الأفراد.
وعودة إلى الموضوع، فإن مؤسسة الأسرة والزواج هي مؤسسة بطيئة بالتّعريف ومستقرّة بالضرورة، أو هذا ما يُرادُ منها، والبطء والاستقرار نقيضان لنمط الإنتاج الحالي السريع والمضطرب؛ خوف من فقدان الوظيفة ومواعيد صارمة لإنجاز المهمات والمشاريع وضرورة تطوير المهارات ومواكبة متطلبات سوق العمل
ولأن الشخص مضطرّ في مثل هذا النظام للتكيّف مع هذا النمط السريع والمضطرب، فإنّه في تغيّر مستمرّ على صعيد الشخصيّة والقدرات، وفي تنقّل مستمرّ من فرصة إلى أخرى أفضل منها، الأمر الذي ينعكس لا محالة على تفضيلاته وطريقة تفكيره.
أمّا إنجاب الأطفال، فليس غريبًا أن يصبح التوجّه السائد فيه تنظيم النسل (في الطبقة الوسطى على الأقل، وهي الطبقة التي لعبت دورًا أساسيًّا في التغيير تاريخيًّا) والاكتفاء بعدد أطفال يقل عن عدد أصابع اليد الواحدة.
كذلك فإن حالات الطلاق التي تزداد بشكل مضطرد، والحالات التي تضطر المرأة فيها أن تبقى في مؤسّسة الزواج لأسباب تتعلّق بالقيم التقليدية للمجتمع؛ كل ذلك لا بدّ يخبرنا شيئًا ما.
واليوم دخل اقتصاد الأعمال الحرّة (gig economy) وهو أكثر سرعة وأقل استقرارًا من سابقه، وحلّت الـ Adhocracy محل الـ Bureaucracy، كل ذلك وغيره لا بدّ أن يلقي بظلاله على مؤسّسة الزواج.
وستصبح الآية الكريمة: "وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا" أكثر قراءة ومركزيّة من الآية الكريمة الأخرى: "وجعلنا لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها"