الاغتيال هو الهدف فيما حياة المُنفّذ منتهية لامحالة، خمر ممزوج بمخدر يتناوله المختار، يغيب عن الوعي ثم يستفيق ليجد نفسه فيما يشبه الجنة، يغيب عن الوعي ثانية ليجد ذاته وقد عاد إلى واقعه المعتاد وشيخ الجبل يلقنه ماعليه فعله مع وعد بالخلود في الجنة التي رأى

الحشاشون...

حياكم تحت🌹
منحدرات شديدة الوعورة جنوب بحر قزوين، بعيدة كل البعد عن يد الدولة المركزية آنذاك، موقع فريد لقيام دعوة إسماعلية جديدة يحيي بها حسن الصباح -المتوفي 518 هـ- مااندثر أثره من أمجاد الدولة الفاطمية التي قاربت فورتها على الخمود، استجمع كل قوته الدعوية وانطلق بين السكان مقنعا ومؤثرا
الحسن الصباح مؤسس الدعوة الجديدة المعروفة بالحشاشين، تلك الدعوة السرية الأكثر غموضًا ، ولد في 430 هـ وسافر إلى القاهرة الفاطمية، حيث تلقى تعليمه الديني هناك، ثم ما لبث أن عاد قافلا إلى موطنه الأصلي حيث كان اختياره لمنطقة دامغان الفارسية كي يبدأ فيها دعوته.
كانت بلاد فارس حينذاك منضوية تحت حكم السلاجقة ، فيما البوادي وسكان الجبال يمتلكون شعورا أرحب بالحرية، متفلتين دائمًا بشكل أو بآخر من سلطة الدولة ومقاومين لسطوتها، وتلك صفات وقع عليه الصباح في نفس هؤلاء، فأينعت له أتباعًا ومريدين، وبدأ في إرسال دعاته في كل حدب وصوب.
بعد نحو ثلاث سنوات من نزول الصباح في دامغان والتفاف الناس حوله، انتبه أخيرا الوزير السلجوقي نظام الملك إلى خطورته وأمر باعتقاله، لكنه استطاع الفرار قافلا هذه المرة إلى قزوين ذات الأبعاد الجغرافية الوعرة، حيث رأى فيها مكانا نائيًا يمنعه من بطش السلاجقة ويمكنه من التعبير عن نفسه.
وجه الصباح تركيزه نحو قلعة معروفة باسم ألوه أموت أي عش النسر والتي تحولت لاحقا إلى قلعة ألموت، حيث تقع على إحدى الجبال مرتفعة عن الأرض بنحو 2100 متر، ليس هذا فحسب بل لا يوجد لها سوى طريق واحد ملتف حول كتلتها الجبلية وهو ما أكسبها منعة وصعوبة في الاقتحام.
استطاع الصباح الحصول عليها من مالكها بنحو 3000 درهم، حيث قضى فيها بقية حياته منكبا على التأليف وممارسًا لمهنته في اختبار النباتات وصنع الأدوية، كما كانت قعلته منطلقًا لعملياته وخططه، فيما سكان المنخفضات من مريديه يمدونه بما يحتاجه وجماعته من طعام ومحاصيل مختلفة.
أثبتت القلعة جاهزية ومنعة حثته ومعه أتباعه على تكرار نفس النمط منها، فكانت توسعاته التي لم تستهدف فقط اجتذاب فئات جديدة، بل استهدفت كذلك الجبال والقلاع المحيطة، حيث استطاع تكوين سلسلة متفرقة على طول إيران والشام من القلاع والأحصنة المنيعة، لعل أشهرها قلعة الحشاشين في مصياف.
أدرك الحشاشون من اليوم الأول إمكانياتهم، حيث رأوا أنفسهم ضعافًا من الناحية العسكرية في مقابل العباسيين والسلاجقة، لذلك عمد شيوخهم إلى انتهاج طريقة استثنائية في المواجهة لكنها مؤثرة جدًا، ألا وهي طريقة الاغتيال السياسي المعتمد على قتلة مهرة شجعان لا يأبهون للموت.
استطاع الصباح ومن بعده سنان أبرز زعماء الحشاشين من صناعة مريدين ذوي مواصفات خاصة، بإمكانهم تنفيذ عمليات اغتيال شديدة التعقيد والقبول بالتضحية بأنفسهم في سبيل الدعوة، وهو أساس نسج البعض على إثره حكايات تتعلق بتناول هؤلاء لمواد مخدرة وإيهامهم بجنة حسية تنتظرهم وغير ذلك.
تمكن حسن الصباح من تدريب عناصره على الاغتيال ومن ثم استقبال الموت بشكلٍ مغاير لاستقبال البشر له؛ فعندما كانوا يقتلون أميراً أو وزيراً كبيراً لا يهربون، بل كانوا يظلُّون واقفين في مكانهم مستسلمين للقتل من الأطراف الأخرى، وفي هذه رسالة ضمنية للأعداء مفادها: نحن لا نهاب الموت!
يعتبر الحشاشون اساتذة الاغتيال السياسي في التاريخ، حيث تبنوا استراتيجية عسكرية اعتمدوا فيها على مواجهة أعدائهم عن طريق اغتيالات انتقائية لشخصيات بارزة، ينفذها فدائيون متنكرون غلاظ لا يأبهون للموت، ومن هنا كانوا مثاراً للخوف خصوصاً في قلوب الأمراء وذوي المناصب.
في سبب تسمية هذه الطائفة بـ "الحشّاشين" أو "الحشّاشية"؛ فقد أُطلق عليهم هذا اللقب لأنهم كانوا يختفون وسط الحشائش لاغتيال معارضيهم، وقيل لشربهم "الحشيش" قُبيل عمليات الاغتيال لمعارضيهم حتى لا يتراجعوا عنها وسط تأثير هذه المادة المخدّرة.
في 10 رمضان 485 هـ، في نهاوند وبعد توقف الوزير السلجوقي نظام الملك بركبه لأحد السائلين من أجل الاستماع لشكواه وطلبه، إذ بالسائل مخرجًا خنجرًا مسمومًا وطاعنًا للوزير في قلبه ومفضيًا بحياته، كان السائل أحد أجناد أو انتحاري الحشاشين، وبذلك بدأت قصتهم مع الاغتيالات المتتالية.
لم يسلم من عملياتهم أحد، حتى صلاح الدين الأيوبي الذي هابه الغرب قبل الشرق وسطر بانتصاراته عصرًا جديدًا كليًا ارتفعت فيه راية المسلسمين حتى عانقت السماء، لقد عرفوا الطريق إليه غير مرة، وكادوا عبر المكر والخديعة أن يغتالوه في قلب خيمته، لكن الله سلمه
في عام 588 هـ، تسلل عنصرين من الحشاشين إلى خلوة المركيز كونراد من مونفيراتو ملك بيت المقدس، وذلك بعد أن تنكروا في زي رهبان، ثم توجهوا إليه بطعنات قاتلة أودت بحياته، حيث كان هذا الاغتيال بمثابة قربان صلح أقدموا عليه من أجل ترضية صلاح الدين الغاضب منهم.
بفضل عملياتهم النوعية التي استمرت على مدى عقود، ذاع اسمهم وتداوله الجميع سواء في الغرب والشرق. ففي تقرير أرسله أحد المبعوثين للإمبراطور الألماني فردريك بربروسا سنة 570 هـ قال "لهم سيد يلقي أشد الرعب في قلوب الأمراء والملوك، لأن من عادته أن يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة"
تأثر الغرب ثقافياً بهذه الطائفة تأثراً كبيراً وجرى تداول حكاياها وأساطيرها إلى ذلك الحد الذي اشتق من اسمهم بعد ذلك كلمة Assassins والتي تعني القاتل المدرب على الاغتيالات، وذلك كما هو مثبت في دائرة المعارف البريطانية.
مثّل الحشاشون قصة خصبة اقتنصها كثير من الأدباء وقدموا من نافذتها روايات وأعمال أدبية، من أبرز تلك الروايات رواية “Alamut“ لـ فلاديمير بارتول الصادرة عام 1938، ورواية لويس لامور The Walking Drum المنشورة عام 1984، بالإضافة إلى رواية "سمرقند" لأمين معلوف المنشورة عام 1988.
لم تتوقف الأعمال الإبداعية التي تحاكي قصة الحشاشين وتستحضرها عند حدود الأدب المكتوب بل انتقلت إلى حيز ألعاب الفيديو، من خلال لعبة Assassin's Creedمن إنتاج يوبي سوفت، وفيها يتقمص اللاعب دور أحد أعضاء طائفة الحشاشين لينفذ عمليات اغتيال خطرة ضد شخصيات مهمة.
على مدى 166 عاماً فترة تواجد الحشاشين وتأثيرهم حاولت كثير من الجيوش اقتحام قلعة ألموت في مقدمتهم السلاجقة والأيوبيين والخوارزميين، وبالفعل ضربوا حصارا شديداً عليها استمر في بعض الأحيان لسنوات، لكنهم في النهاية لم يستطيعوا اقتحامها، وبقيت تلك القلعة عصية.
وصل حكم الحشاشين إلى منعطف خطير حين تعاونوا مع المغول في بداية اجتياحهم للمنطقة، لكن هذا التعاون لم يستمر، إذ انقلب المغول عليهم واستطاعوا دخول قلعة ألموت عام 654 هـ ودمروها، ونفذوا مذبحة بحقهم إلا من استعصم بالجبال، أما في الشام فقد تكفل بيبرس بالقضاء عليهم بعد ذلك بسنوات قليلة.
وبذلك أسدل الستار عن فرقة لطالما بثت الرعب والخوف في القلوب وذلك بعد أن وققت عصية أمام النيل منها لأكثر من قرن ونصف.
You can follow @majed_i.
Tip: mention @twtextapp on a Twitter thread with the keyword “unroll” to get a link to it.

Latest Threads Unrolled: