في مشهد فلسفي لفيلم "My life to live"، تقرر "نينا" الكلام، "نينا" الشخصية الغامضة، والتي لا نلمح أيّ فكرة تدور برأسها طوال الفيلم، نراها تعيش حياتها وكأنها شخص آخر، خالية من أية تأويلات لشخصها،عدا ملامحها التي نفهم من خلال تعبيراتها بأن الكلمات تبيت في فمها..
تتحدث مع غريب عن مشكلتها مع الكلام، صعوبة اختيار الكلمات، وتتساءل عن حاجتنا للكلام أمام قدرتنا على الصمت، ونفهم من خلالها تفضيلها للصمت على الكلام، لحفاظه على المعنى.. وربما أيضا لكونها لا تستطيع التعبير عن نفسها..
بدأت مشكلتي مع الكلام عندما أصبحت حذرة منه، لا أتذكر كيف.. لكنني جربت مذاق أن تتزاحم الكلمات في حلقي.. اللغة ضيقة ومكررة.. لقد قلت كل شيء، ما الذي أريد قوله وكل ما سأقوله قليل أمام ما أشعر به وأفكر فيه، كيف أشرح العقد التي أحاول فكها؟ كيف أفكها؟
تشبه هذه اللحظة عندما أقف أمام المرآة، لا أعرف ماذا أقول لنفسي، تتسرب مني نظرة مبهمة وأرى نظرة تقابلها في الغموض، لا فراغ بيننا لنملأه بالكلام.. إنها لحظة تتطلب مني الصمت والتنحي جانباً، نبوءة تستدعيني لتجنب المرآة لمدة طويلة..
اللغة أصغر وأضعف، لا تساوي عقدي، جربت أيضاً الهرولة نحو الكلمات الصحيحة أو المناسبة، لأكون دقيقة ومفهومة،ودائما ما أقع في ذات النهاية، خيبة اللقاء بالصمت كخيار للنجاة، اخترته ومازلت أفضلّه.
كيف أبدأ الكلام؟ الكلام دائما يفر من قيادتنا، وليد اللحظة، عبثي، يخرج مخالفا للصمت والجمود، إنه جسر يذيب الغشاوة بين آخر وآخر، قالها أرسطو مسبقاً: تكلم حتى أراك. نحن نفتح نافذة من نوافذنا للآخر بغرض ما، أو من دونه أحياناً وفقط لقتل الوقت.
لحظة أن نبدأ بالكلمة الأولى، نفقد تدريجيا مع كل كلمة وما يليها قوتنا في التحكم بما تدليه رؤوسنا، ننجر للحديث ولا نعلم إلى أيّ جهة ومِغلق سيؤول.
بالطبع أوافق إجابة الفيلسوف لها حيث الكلام حاجتنا للحياة وقرارنا لأن نكون، وسيلتنا للتواصل والتعبير عن أنفسنا، محاولتنا لفهم أفكارنا، محاولتنا الجادة والمستمرة أيضاً للعثور على لغة تناسبنا، وبأن فترات الصمت والكلام دورة-لا غنى عنها للمرء- تخلق الإتزان.
لكني في حاجة للعودة إلى حكايته عن بورثوس الذي عندما فكر للمرة الأولى مات، كأنه في سباته كان ضامنا لنجاته، مما يعني بأن الكلام (وسيلتنا للتفكير) مخاطرة..
الصمت نفسه ما خلق في لساني جوعا للكلام، فجأة أصبحت أتكلم وكأنني معتادة على الكلام..