في هذا الثريد سنتناول موضوع "الأخلاق" بأسئلته المتفرّعة والممتدّدة : هل الدين هو المصدر الوحيد للأخلاق؟ أم أن هناك أصلاً مادياً للأخلاق؟ وهل للشخص اللاديني أو الملحد أخلاق؟ إذاً ما هي المرجعيّة الأخلاقية للملحد أو اللاديني؟.
#عقلانيون
ولغاية الإختصار والإيجاز، فسأحاول قدر الإمكان عدم التطرق إلى تناول الفلاسفة للأخلاق تحليلاً وتصنيفًا وجدالاً مثل : أرسطو، وسقراط، وكانط. إلا فيما يخصُّ موضوعنا.

سنبدأ نقاشنا حول وثوقيّة الأخلاق الدينية، وهل هي مطلقة؟! كما يدّعي المؤمنون أم نسبية؟!.
إليكم معضلة يوثيفرو (Euthyphro)، وهي شخصية يوثفرو في الحوار السقراطي لأفلاطون حول موضوع الخير، يتسائل أفلاطون : هل يكون الشيء "خيراً" لأن الله يقول أنه "خير"، أم هل يقول الله أن الشيء "خير" لأنه خير بالفعل؟!.
إن كانت الأولى "الله هو مصدر الخير" فهذا يعني بالضرورة أنّ الله نفسه ليس لديه معنى أو قيمة جوهرية للخير أو الشر، لأن الشيء خير لمجرد أن الله قال أنه خير، وبالتالي فإن الله يستطيع أن يقول عن أي شيء أنه خير فيكون كذلك بالضرورة ولو كان شراً معلوماً بالبديهيات الضرورية.
البديهيات الضرورية المعلومة لدى كافة البشر، مثل : السرقة، القتل، الإغتصاب، فمعيار القيمة الجوهرية هنا مفقود، ولو كانت الإجابة الثانية، "الخير خير بذاته" ولذلك يأمر الله به، فهذا يعني أن الخير يمثل منطقًا علويًا منفصلاً عن الله، بل إنّ الله نفسه يتبعه ويخضع له بأمره بفعل الخير.
وإلى الآن لم يقدم المؤمنون أيّ إجابات فلسفية حقيقية تعالج هذه المعضلة اليونانية القديمة والتي تهدم كامل المنظومة الأخلاقية للأديان، بل تجدهم يبرّرون بمغالطات منطقية لاهوتية للخروج من هذه الإشكالية فيقعون في معضلات أخرى عميقة وعويصة مثل : "معضلة الشر".
أحد التبريرات الزائفة وهي مغالطة منطقية من نمط (Theological argument) تتلخّص في قولهم "أن الله يملك السيادة المطلقة فهو خيرٌ في ذاته ولا يستمد الخير من شيء آخر"، وهذا يقتضي بالضرورة عدم وجود الشر في هذا العالم طالما أن الله هو مصدر "الخير المطلق" و "السيادة الأخلاقية".
لكن الواقع يناقض هذا تماماً، لأن الشر حقيقة واقعة وموجودة ويعصف بهذا العالم في جميع الألوان والصور ولا يمكن إنكار ذلك، فكيف نوفّق إذاً بين "الخيريّة الإلهية المطلقة" وبين "الشر" الذي يعصف بنا، وهذه هي "معضلة الشر لأبيقور".
ولن نخوض طويلاً في فصل وتفكيك وشرح هذه المعضلات حتى لا يتململ القارئ ولا يتضجّر، ما أقصده هنا أن المؤمنين لم يقدّموا إجابة فلسفية حقيقية تعالج معضلة يوثفرو (Euthyphro)، وأن سمة التخبط ملازمة لهم، فكلّ ما حاولوا الخروج من المأزق وقعوا في مغالطات ومعضلات أخرى عويصة تزيد الطين بلّة.
وقبل شرح معضلة أبيقور يجب أن نتفق في أنّ وجود الشر ينفي وجود الله، وأنّ وجود الله ينفي وجود الشر.

تعالوا لننظر إلى رائعة الفيلسوف الإغريقي أبيقور: هل الله لا يريد الشر، ويقدر عليه؟
إذاً من أين أتى الشر ؟! هل الله يريد الشر، ولا يقدر عليه؟! إذاً، فهو عاجز غير كلي القدرة !.
تكملة : هل الله يريد الشر، ويقدر عليه؟!
إذاً فهو شرير!.

هل الله لا يريد الشر، ولا يقدر عليه؟!

فكيف نطلق عليه "الله" إذاً؟ فهكذا لا وجود له لأنه لا قدرة ولا إرادة له.
وعند الحديث عن الأخلاق الدّينية نتسائل : "أيّ دين هو المقصود؟" فهل أخلاق الإسلام هي نفسها أخلاق المسيحيّة أو اليهوديّة أو الهندوسيّة أو البوذيّة أو الزرادشتيّة أو الكونفوشية أو الطاوية الخ...؟!
والجواب بالطبع لا، فكلُّ دين له أخلاقيات خاصة تعتمد على كتاب مقدّس ومرجعيّة مختلفة تمامًا عن الأديان الأخرى يعود اليها صاحب الدين في بناء منظومته الأخلاقية، فمرجعيّة المسلم الأخلاقيّة ليست مرجعيّة المسيحي ذاتها بل قد تناقضها.
شرب الخمر مثلاً يعتبر فعلاً لا أخلاقيًا بالنسبة للمسلم لكنه ليس كذلك عند المسيحي، بينما نجدُ أنّ الطّلاق يعتبر أمرًا مرفوضا أخلاقيا عند المسيحي لكنه ليس كذلك عند المسلم، وعلى هذا المنوال، ذلك لأنّ لكل دين كتاب مختلف ومراجع مختلفة يعود إليها، فلا وجود للأخلاقيات المطلقة.
ولو نظرنا داخل الدّين الواحد، فإننا نجد أن المرجعيات الأخلاقيّة تختلف وتتباين باختلاف وتنوع المذاهب والطّوائف والمراجع الفقهية، فهل تتطابق أخلاق المسلم السّني مثلاً مع أخلاق المسلم الشيعي؟! الجواب بالنّفي مرةً أخرى، زواج المتعة مثلاً يعتبر لاأخلاقيًّا عند المسلم السني.
زواج المتعة مثلاً يعدُّ لاأخلاقيًّا بالنسبة للمسلم السني، لكنه مقبولٌ تمامًا من وجهة نظر المسلم الشّيعي.

نستنتج : أنّ الأخلاق الدينية في مجموعها نسبية لا مطلقة، وأنّه لا وجود لاتّفاق بالجملة على "أخلاق دينية" موحدة كما يزعم بعض المؤمنين.
يلوحُ في الأفق تساؤلاً آخر : هل الأخلاق الناتجة عن الطاعة والإلتزام بالأوامر، هي أخلاقٌ حقًا؟!

لو دققنا النظر في تعريفات الأخلاق عند الفلاسفة، لوجدنا اتفاقاً على أن الأخلاق الأصولية تدرس معياريّة الخير والشر، وتهتم بتشكيل القيم العليا، لتصل بالإنسان إلى الإرتقاء بمحض إرادته.
تكملة : بمحض إرادته الحرة ونفسه الإنسانيّة المطلقة، فالأخلاق لا ترتبط بما يحدّده ويفرضهُ الآخرون، فهي تخصّ الإنسان وحده، ومصدرها ضميره ووعيه واستقلاليّة ذاته.

على سبيل المثال، الجندي الذي يطيع أوامر قادته بكلّ التزام لا يمكن له القول بأن أفعاله تنبع من أخلاقياته.
لأن أفعاله تعتمد على قيَم الطاعة والالتزام الأعمى، لا من ضميره ووعيه الحر. وبذلك هي ليست قيم جوهرية (Core Values)، فهي بالأصح أخلاقيات زائفة غير أصولية.

وفي هذه الحالة، هو لا يختلف كثيرا عن الروبوت المبرمج أو الآلة الصّماء.
لذلك أخلاق المؤمن ليست أخلاقًا حقيقية بالمعنى الجوهري للأخلاق، لأنها تقوم بالأساس على طاعة جهة آمرة ناهية، فالمؤمن عبد لربه، والعبودية لا تصنع أخلاقًا، وطاعة العبد لتعليمات سيده هي كطاعة الجندي لقائده، فلا يمكن تصنيفها على أنها أفعال أخلاقية جوهرية بأي حال من الأحوال.
إن الإنسان حين يمتنع عن السرقة بدافع من ضميره الواعي، فهذا باتفاق الجميع عمل أخلاقي، ولكن ماذا عن الإنسان الذي يمتنع عن السرقة لعلمه أن هناك شرطيا يراقبه؟! هل يمكن القول إن هذا الفعل منبعه أخلاقي؟!.
بالطبع لا، بل هو الخوف وقس على ذلك جميع الأفعال البراغماتية جدًا والتي تتفق مع المصلحة الخاصة ولا علاقة لها بالمفهوم المشترك للأخلاق في شكلها النّقي "الجوهري" و الذي يدعي المؤمنون امتلاكها.
إنّ المؤمن يلتزم بالأخلاق خوفاً من العذاب الإلهي في النار والظلمة وسلاسل أهل النار الخ...، وطمعاً في المكافأة والثواب الإلهي من جناتٍ وخمرٍ وفاكهةٍ ونساءٍ وأنهار اللبن الخ...، لكن يا ترى هل تعتبر هذه أخلاقًا مُتجردةً ساميةً على المصالحِ الماديّةِ كما يزعم المؤمنون؟!.
أم هي في النّهاية مجردُ تجارةٍ (كما يسمّيها القرآن في صورة الصف الآية 10-11) مبنية على حساب الرّبح والخسارة؟!

ومن الجدير بالذكر أن هذا النوع من "الأخلاق" المبنية على الخوف والطّمع نجده عند اللص الذي يمتنع عن السّرقة خوفًا من السّجن فقط، وعند التاجر الذي يطمع في الثروة فقط.
ومن الواضح جدا أن تلك الأفعال كلها لا يمكن وصفها بالأخلاق الجوهريّة، بل تعتمد على الغرائز الأنانيّة المحضة.

والنتيجة هي أن الخوف من عقاب الله والطّمع في مكافأته يجعلان المؤمن إنسانا تجاريا في سلوكه متبعا لمصلحته الماديّة، وهي ذات التّهمة القبيحة التّي يتهم بها المؤمن اللاديني.
وتتّضح خصائص الأخلاق الدّينية كخاصيّة النّسبية والطّاعة العمياء حين نرى المؤمن يدور في تبريراته الأخلاقيّة مع رُحى الدّين أينما دار، ويُبدي استعدادًا لقبول أيّ قولٍ وأيّ فعلٍِ يصدر عن هذا الدّين دون أدنى إعتراض (قتل، إبادة، اغتيالات، سرقة، سلب، نهب، تعذيب، اغتصاب، عبوديّة… إلخ).
وتجده يستميت في محاولة تبرير ذلك القول وذلك الفعل أيًّا كان، ولا يجد غضاضةً في إخضاع المبادئ والقيم الأخلاقيّة وقولبتها أو لي أعناقها لتحويرها عن المعنى الأصلي، فالمرجعيّة عند المؤمن ليست المبدأ ذاته، بل الخضوع والطّاعة للنص.
لذلك الأخلاق الدينية ليست أخلاقًا ثابتةً تقوم على مبادئ محددةٍ واضحةِ الأسس، بل هي أخلاق مرنة فضفاضة مطاطة هلامية تتمدد مع النّص في كل اتجاه وإلى أقصى الحدود، فالمؤمن النّموذجي هو عبد نموذجي، وبالتالي فهو مستعد لقبول أيّ شيء طالما يوجد به نص في كتابه المقدس المُملى عليه من سيده.
يقول عالم الأعصاب سام هاريس : "إنه لمن الخطأ تمامًا الاعتقاد بأنّ الدّين يوفّر الإطار العام الوحيد لأخلاقٍ عالمية".

وقد ألقى محاضرة علمية في المؤتمر الأكاديمي (TED) بعنوان "Science can Answer moral question - العلم يجيب على التساؤلات الأخلاقية".
أنصح الجميع بالإطلاع على المحاضرة القيّمة (تتوفر الترجمة من قائمة الخيارات)، يوضح عالم الأعصاب سام هاريس في هذه المحاضرة "العلاقة بين العلم والقيم الإنسانية الأخلاقية"، ويهدم الخرافة أو المغالطة العلمية الشائعة حول أن العلم لا يمكنه الإجابة عن التساؤلات القيميّة والأخلاقيّة.
وهذه محاضرة علمية أكاديمية أخرى لعالم الأعصاب سام هاريس وعالم البيولوجيا التطورية ريتشارد داوكينز وتم عقدها
في جامعة (Oxford) العريقة بعنوان :
"Who Says Science Has Nothing to say about Morality - من قال بأن العلم لا يجيب على التساؤلات الأخلاقية؟".
ريتشارد پول وليندا آلدر يعرفان الأخلاق في كتابهما (The Miniature Guide to
Understanding the Foundations of
Ethical Reasoning الدليل إلى فهم أسس العقلانية الأخلاقية) بأنها: مجموعة من المفاهيم والمبادئ التي توجهنا لتحديد ماهية السلوكيات التّي تفيد أو تضر الكائنات الحيّة
كما نقرأ:
وقد كتبت البروفيسورة "Doris Schroeder" وهي أستاذة في الفلسفة الأخلاقية بجامعة (Lancaster University) في المملكة المتحدة بحثاً أكاديمياً في الـ IEP وهي (Peer reviewed - مصدر أكاديمي علمي معتمد) بعنوان : Evolutionary Ethics أو الأخلاقيات التطويرية.
https://www.iep.utm.edu/evol-eth/ 
تقول في البحث : تحاول الأخلاقيات التطورية (Evolutionary Ethics) أن تسدُّ الفجوة بين الفلسفة والعلوم الطبيعية عبر عملية الإنتخاب الطبيعي (Natural Selection).

والتي غرست في الإنسان حسَّ الأخلاق والميل لأن يكون صالحاً، ولذلك فمن الممكن فهم الأخلاق بوصفها ظاهرة نشأت تلقائياً...
تكملة : نشأت تلقائياً أثناء تطور الكائنات الإجتماعية الذكية، وليست كما يجادل رجال الدين والفلاسفة أنها نتيجة للوحي الإلهي أو نتيجةً لتوظيف ملكاتنا العقلية.
لذلك يمكن فهم وتفسير الأخلاق بأنها تكيُّف نافع يزيد من فرصة صاحبه على البقاء بمنحه منفعة إنتقائية (أن تكون كريماً ووافياً مثلاً سيجعل لك مكانةً خاصة في العشيرة أو القبيلة، ومن ثم ستزيد فرصتك على البقاء والتكاثر وهذا هو الأساس في عملية التطور).
وهذا ما ذهب إليه عالم البيولوجيا الإجتماعية (sociobiology)"Edward O.Wilson"
حيث يقول في كتابه (Sociobiology: The New Synthesis, Harvard University):
"يجب على العلماء والإنسانيين أن ينتبهوا معاً إلى إمكانية إقصاء الأخلاقيات من أيدي الفلاسفة ونقلها إلى علم الأحياء".
وبما أن اللاديني لا يدّعي الإطلاقية أو القدسيّة كالمؤمن في بناء تصوراته وأفكاره، بل ينطلق من الطّبيعيّ والماديّ والحسيّ والنّفعي (كما يتّهمنا المؤمنون، وهو شرفٌ لنا لن ننفيه هنا بل سنؤكده) فلنبدأ من المادي والنّفعي إذًا.
أ) لا شك أن السّعادة والألم هي أسس المشاعر البشرية، بل والحيوانية، فكل كائنٍ حيٍ يسعى لتحصيل السّعادة وتجنب الألم.

ب) ومن غريزتي السّعادة والألم "عبر التّطور المجتمعي الإنساني" نبع مفهوما المصلحة والضّرر؛ فما يسعدنا كأفراد ويدعم بقاءنا وبقاء نسلنا نطلق عليه "مصلحتنا"...
وما يؤلمنا كأفراد ويهدد بقاءنا وبقاء نسلنا نطلق عليه "ضررنا".

ج) ومن مفهومَي المصلحة والضّرر "عبر التّطور الفكري الإنساني" نبعت قيم الخير والشر الأخلاقيّين: ما يحقق مصلحة الآخرين (المجتمع) نطلق عليه "الخير"، وما يضاد مصلحة المجتمع نطلق عليه "الشر".
إذاً:

سعادة وألم ——-> نفع وضرر ——-> خير وشر

نستنتج إذاً: أن الأخلاق مجرد غرائز تبلورت إلى مفاهيم، ومفاهيم تبلورت إلى قيمٍ سلوكية؛ فلا غيبيات ولا روحانيات ولا ميتافيزيقا ولا معانٍ مجردة مطلقةٍ موحى بها من قوة خارجيةٍ سماوية وإنما قوانين سلوكية تفرضها الطَّبيعة.
تكملة : تفرضها الطبيعة ونصقلها نحن بعقولنا لتخدم مصالحنا، فالمرجع الوحيد هو الإنسان: بعقله ومجتمعه.
دعونا نستطرد قليلاً في الأساس البيولوجي (التطوري) للأخلاق، لنتصور معًا أنّ أمامنا ثلاثة مجتمعات أو قبائل منفصلة، القبيلة الأولى يمتاز أصحابها بالأخلاق المثاليّة دون ذرةٍ مما نطلق عليه شرًا، الكل فيها يمتاز بالمحبة والسّلام والصّدق والكرم والإيثار بحيث يفضّل غيره على نفسه ويضحّي..
ويضحّي من أجل الآخرين، أمّا القبيلة الثانية فهي على النّقيض تماماً تحوي بشرًا لا أخلاقيين أشبهُ بالوحوش المفترسة دون ذرةٍ مما نطلق عليه خيرًا: الكل فيها يمتاز بالكذب والخيانة ويميل إلى العنف ويمارس القتل والسّرقة والاغتصاب وكل الأخلاقيات الشريرة بدون أدنى رادع.
أخيرًا لدينا قبيلة ثالثة أفرادها "مثلنا" تجتمع فيهم صفات الخير والشر في تمازج كما هو معروفٌ لدينا.

السّؤال هنا: أيُّ من تلك القبائل ستكون ذات الصلاحية الأكبر للبقاء والإستمرار بشكلٍ أكثر كفاءةً وفعاليةً دون فناءٍ؟!
الجواب: في الغالب هي الثالثة، فمن السّهل تصور كيف سينقرض أفراد القبيلة الأولى حتمًا، حيث سيكونون عُرضةً للانهيار أمام أقل اعتداء خارجي من مجتمع منافس، فهم يفتقدون لأدنى مناعة ضد الهجوم ولن يكونوا مستعدين للقتال عند اللزوم دفاعًا عن أنفسهم وأرضهم ومواردهم، وبالتالي لن يكون لديهم..
تكملة : لديهم فرصةً للبقاء والعيش، كذلك لن يكون حظُّ القبيلة الثانية أفضل، فحتى لو امتاز أفرادها بالعنف والقوة التّي ستمكنهم من حماية أنفسهم أو حتى الاعتداء على الغير، فمن السّهل تصور كيف يمكن للصّراعات الضّارية فيما بينهم أن تكون كفيلة بأن تهلكهم جميعًا في حروب ومعارك داخلية..
تكملة : معارك داخلية لا تنتهي حتى تفنيهم عن بكرة أبيهم، باختصار شديد فالقبيلة الأولى غالبًا ما ستفشل في العيش، بينما ستفشل الثانية في التّعايش.
أما القبيلة الثالثة، الجامعة لقيمٍ مختلطةٍ من «
"الخير" و"الشر"، فيُتوقع لها أن تكون أقدر على بناء حضارةٍ تجمعُ بشكلٍ متوازنٍ ما بين السّلم والعنف، الرّحمة والقسوة، التّعاون والأنانية، وبالتّالي فستكون النتيجةُ مجتمعًا أكثر مرونةً وتماسكًا وذات صلاحية عالية على البقاء.
هكذا نرى كيف أن الأخلاق مفيدة كما أن الأنانية مفيدة، إذ لا يمكن تصورُ قدرة مجتمعٍ ما على العيش والإزدهار دون حرصٍ من أفراده، ليس على مصالحهم الشخصية فقط، بل على المصلحة الجماعية للقبيلة أو للشعب والأمة أيضًا.
يمكن تفسير هذه المنظومة الأخلاقية الواقعية بناء على آليّة الانتقاء التّطوريّ والقائمة على الغربلة الطّبيعية المستمرة عبر ملايين السّنين، حيث صارت الكائنات تمتلك مزيجًا من السّلوكيات الأنانية (الشريرة) من ناحية، والسّلوكيات الأخلاقيّة الإيثارية (الخيّرة) من ناحيةٍ أخرى.
وما يؤكد الأصل البيولوجي التطوري للأخلاق من حيث أنها مفيدةٌ لبقاء النّوع هو أننا نجد بوضوح مظاهرًا لسلوكيات أخلاقيّة مدهشةً عند الحيوانات وخاصة الثدييات، حيث نرى كثيرًا من الكائنات تملك غريزة التّعاطف مع أفراد جنسها، فنراها تتشارك في الطّعام وتحمي الضّعيف وترعى المريض إلخ...
علمًا بأن هذه الممارسات "الأخلاقيّة" لا تصبّ بالضّرورة في مصلحة الحيوان كفرد بل قد تتضمن معاناةٍ أو مخاطرةٍ قد تودي به، ولكن الواضح أنّها تصبّ في مصلحة بقاء القطيع أو الجماعة ككل، ولهذه الأخلاقيّات أنواعٌ وأسبابٌ عديدة، كلها تصبّ في باب المصالح المتبادلة والحفاظ على بقاء الجماعة.
على سبيل المثال هناك ما يسمى "اصطفاء القرابة kin selection"، وهذا ما لاحظه تشارلز داروين، وتعريفها أنّها آليّة تطوّرية تنتج سلوكًا تعاطفيًا إيثاريًا من الكائن تجاه أقاربه، حتى ولو كان على حسابه الشخصي، إذ يكمن الهدف هنا في الحفاظ على بقاء المجموعة المشتركة من الجينات.
وهذه الغريزة قد تتجاوز الأقارب المباشرين لتمتد شاملة الأقارب الأبعد أيضًا، وهم سائر أفراد الجماعة.

وبالإضافة لإستمرار النّسل وتقوية الجماعة، فالسّلوكيات الأخلاقيّة كثيرًا ما تهدف إلى تبادل مصالح شخصية، وهو ما يسمى (الإيثار المتبادل - Reciprocal Altruism).
إذ يقوم القرد الأول مثلاً بـ "تفلية" ظهر القرد الثاني من القمل، وبعدها سيحدث تبادل للعملية، فالفائدة الواضحة لسلوك "مقايضة المصالح" هذا سينتج غريزةً تطوّريةً تميل إلى التّعاون المتبادل بين الكائنات.
وكما أنني كفرد حين أرتكب الأذى تجاه الغير أتوقع أنه قد يصيبني بعدها أذى مماثلٌ على سبيل الانتقام، فكذلك حين أحسن إلى غيري أتوقع أن الجميل سيتمّ رده إليّ لاحقًا، وهكذا فالاستقامة الأخلاقيّة تجلب المنافع للأفراد والمجتمع، وأحيانًا أكثر من القيم الأنانية والفرديّة واللاأخلاقيّة.
وحتى لو أدّت سلوكيّات الأخلاق والإيثار والتّضحيّة إلى ضرر الفرد بشكلٍ مؤقتٍ أو دائم، فهي ستؤدي في النهاية إلى مصلحة الجماعة وبقائها ككل، وهنا يأتي دور "الإصطفاء الجماعي أو الGroup Selection".
ويمكن تعريفه بأنه:
انتشار سماتٍ سلوكيةٍ معينةٍ في الجماعة، لأنها تعود بالفائدة على الجماعة ككل، حتى ولو لم تكن مفيدةً بشكلٍ مباشرٍ للأفراد، ولعلّ تلك الآلية الطّبيعية (أي الاصطفاء الجماعي) هي التّفسير البيولوجي لوجود جميع السّمات التّي نطلق عليها أخلاقًا.
لهذا نرى حالات تبنّي الكلاب مثلا لحيواناتٍ من فصائل أخرى مثل :القطط والسّناجب والبط، ونجد الذئاب تجلب اللّحم لأفرادٍ من الجماعة لم يكونوا مشاركين في عمليات الصّيد، ونفس الشيء ينطبق أيضًا على الخفافيش مصاصة الدّماء، حيث تتشارك معًا في تقسيم الوجبات فيما بينها.
وأحياناً تجد القرود تتصالح معًا بعد حدوث مشاجرة بينهم بشكل يشبه ما يفعله الإنسان تمامًا، وقد نرى أنواعًا من القوارض والدّلافين ترعى الأفراد العجائز والمرضى والمصابين… إلخ، وفوق هذا نرى تجلياتٍ عجيبةً لغريزةٍ كالأمومة.
فنرى الكثير من إناث الحيوانات تضحي بنفسها من أجل أولادها بطرق مختلفة، وهو مثال ممتاز لتوضيح عمق التّرابط بين الأخلاق والغرائز فالأمومةُ هي هذه وتلك معًا.

ومن المؤكد أنه لدى الحيوانات أسسًا غريزية لجميع قواعدنا السّلوكية والأخلاقيّة بداية من المحبة والعدالة وحتى مراعاة الخصوصية.
You can follow @Adhamakhatib.
Tip: mention @twtextapp on a Twitter thread with the keyword “unroll” to get a link to it.

Latest Threads Unrolled: